بسم الله الرحمن الرحيم
التواضع
الحمد لله كما هو أهله ، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين :
في رواية عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه قال :
( لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون كامل العقل ، ولن يكون كامل العقل حتى يكون فيه عشر خصال :
الخير منه مأمول ، والشرّ منه مأمون ، يستقلّ كثير الخير من نفسه ويستكثر قليل الخير من غيره ، ويستكثر قليل الشرّ من نفسه ويستقلّ كثير الشرّ من غيره ، ولا يتبرّم بطلب الحوائج قلبه ، ولا يسأم من طلب العلم عمره .
الذلّ أحبّ إليه من العزّ ، والفقر أحبّ إليه من الغنى ، حسبه من الدنيا القوت ، والعاشرة وما العاشرة ؟ لا يلقى أحداً إلا قال : هو خير مني وأتقى ، إنما الناس رجلان : رجل خير منه وأتقى وآخر شرّ منه وأدنى ، فإذا لقي الذي هو خير منه تواضع له ليلحق به ، وإذا لقي من هو شرّ منه وأدنى قال : لعلّ شرّ هذا ظاهر وخيره باطن ، فإذا فعل ذلك فقد علا وساد أهل زمانه ) .
إنّ المتتبع لروايات أهل بيت العصمة ( صلوات الله عليهم أجمعين ) يجد ـ في قسم كبير منها ـ التأكيد على وضع حدود واضحة لكلّ فضيلة ، بحيث لا يكون المرء متصفاً بالفضيلة الكذائية إلا إذا كان متصفاً باثنين أو ثلاث أو أربع أو أكثر من ذلك من الصفات والشروط ، والحديث المتقدم هو واحد من تلكم الأحاديث ، فموضوعه هو الإيمان الحقيقيّ للفرد ، ولا يكون إلا بكمال العقل ، وكماله لا يكون إلا بتحقق صفات عشر .
ولكنّ المتتبع أيضاً يجد في نفس الوقت أحاديث تتسم ـ ظاهراً ـ بالاختلاف في وضع ورسم حدود فضيلة ما ، فبينا في حديث يقول أنّ علامات المؤمن ثلاث ـ مثلاً ـ نجد في حديث آخر يقول أنّ علامة المؤمن واحدة هي كمال العقل ـ كما في حديثنا المتقدم ـ .
و لرفع هذا الاختلاف الظاهريّ في هذه الروايات ـ مع غضّ النظر عن سندها ـ توجد عدّة أطروحات ، منها :
1 . أنّ هناك تداخلاً في تلك الصفات التي تذكر لرسم حدود فضيلة ما ، فتذكر في حديث باسم معيّن وفي آخر بغيره ، ولكنّ الحقيقة هي أنّ المفهوم واحد ، ولربما ضمّ مفهوم واحد عدّة مفاهيم .
فمثال الأول قول الإمام الصادق (عليه السلام) : ( لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى تكون فيه خصال ثلاث : الفقه في الدين ، وحسن التقدير في المعيشة ، والصبر على الرزايا ) ، وفي حديث آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال : ( لا يكون المؤمن مؤمناً ولا يستكمل الإيمان حتى يكون فيه ثلاث خصال : اقتباس العلم ، والصبر على المصائب ، وترفق في المعاش ) .
ومثال الثاني ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال : ( لا يكمل إيمان المؤمن حتى يعدّ الرخاء فتنة ، والبلاء نعمة ) ، وفي حديث آخر عنه (عليه السلام) أنه قال : ( لا يكمل عبد الإيمان بالله حتى يكون فيه خمس خصال : التوكل على الله ، والتفويض الى الله ، والتسليم لأمر الله ، والرضا بقضاء الله ، والصبر على بلاء الله ...) .
فعدّ الرخاء فتنة من مقتضيات الرضا بقضاء الله ، وعدّ البلاء نعمة من مقتضيات الصبر على بلاء الله .
2 . أنّ بعض الأحاديث تصف الفضيلة تارة بعلاماتها وما يظهر منها على الفرد في الخارج ، وتارة تصف الفضيلة بحقيقتها ، فلا اختلاف .
ومثاله ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال : ( المؤمن يألف و يُألف ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يُألف ، وخير الناس أنفعهم للناس ) ، وواضح أنّ ( الألفة ) و ( نفع الناس ) أمور خارجية نتجت عن تربية الإنسان نفسه .
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال : ( إنّ المؤمن مَنْ يخافه كلّ شيء ، وذلك أنه عزيز في دين الله ، ولا يخاف من شيء ، وهو علامة كلّ مؤمن ) ، وواضح أيضاً أنّ الصفة الخارجية ( خوف الكلّ من المؤمن ) جاء نتيجة لعوامل داخلية وتربية نفسية ( لا يخاف من شيء ) .
3 . أنّ بعض الأحاديث تارة تصف الفضيلة ، وأخرى تصف كمال الفضيلة ، وهناك فرق واضح بين أن يكون الفرد عاقلاً ـ مثلاً ـ ، وبين أن يكون كامل العقل .
ومثاله ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال : ( لا يؤمن عبد حتى يحبّ للناس ما يحبّ لنفسه من الخير ) ، وفي حديث آخر قول أمير المؤمنين (عليه السلام) : ( لا يكمل إيمان عبد حتى يحبّ من أحبه الله سبحانه ، ويبغض من أبغضه الله سبحانه ) ، والفرق بينهما أنّ حبّ من أحبه الله سبحانه أكمل وأعلى مرتبة من حبّ نفسه للناس .
4 . أنّ بعض الأحاديث تارة تذكر صفة أو أكثر لفضيلة ما ، لأهميتها ـ مثلاً ـ أو عدم انتباه الغير إليها مع مفروغية كون الصفات الأخرى واضحة لديهم ، و بالتالي فإنّ جميع الصفات لا تذكر في نفس الحديث ، بل بمجموع الروايات تتكون لدينا الصورة الكاملة لتلك الفضيلة .
5 . أنّ الإيمان على درجات ، كما ورد أنّ ( المؤمنون على سبع درجات ، صاحب درجة منهم في مزيد من الله عزّ وجلّ ) ، فيمكن إيعاز اختلاف الأحاديث الى كون بعضها تتكلم عن مرتبة دون أخرى .
6 . أنّ بعض الأحاديث تذكر أنّ الفضيلة ـ أو كمالها ـ لا تتحقق حتى يكون فيه ثلاث خصال ـ مثلاً ـ أو أربعة ، فلربما كان المعنى المراد أنّ صفات الفضيلة كاملة البيان ، إلا هذه الثلاثة .
وبعبارة أخرى : أنّ الفرد الذي يصفه الحديث مؤمن ، لكن ينقصه أن يتحلى بهذه الصفات ( التي يذكرها ذلك الحديث ) .
وربما كان سبب التركيز على هذه الصفات التي يذكرها المعصوم دون غيرها نتيجة للظروف الاجتماعية والأخلاقية التي يعيشها ذلك المجتمع ، والتي أوجبت أن تكون تلك الصفات (التي يذكرها الحديث) بارزة و مركزة في ذلك الوقت دون غيرها .
التدبر في الحديث :
لا بدّ أنّ التدبّر في الحديث المتقدم له عدّة فوائد ، نحاول أن نسلط الضوء على بعضٍ منها :
1 . إنّ الحديث المبارك يبيّن أهمية فضيلة ( التواضع ) ، وهذا هو جوهر الخصلة العاشرة ، حيث قال :
( ... والعاشرة وما العاشرة ؟ لا يلقى أحداً إلا قال : هو خير مني وأتقى ... ) .
وهذا ما أكدته أحاديث معصوميّة أخرى ، منها :
ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال : ( التواضع أصل كلّ شرف نفيس ومرتبة رفيعة ... ) .
وروي : أنه أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ملك ، فقال : إنّ الله يخيّرك أن تكون عبداً رسولاً متواضعاً أو ملكاً رسولاً ، فنظر الى جبرائيل (عليه السلام) وأومأ بيده أنْ تواضع ، فقال : ( عبداً متواضعاً رسولاً ) ، فقال الرسول ـ يعني الملك ـ : مع أنه لا ينقصك ممّا عند ربك شيئاً .
ونحن نعلم أنّ الرسول محمداً (صلى الله عليه وآله) حتى لو اختار أن يكون ملكاً رسولاً فإنّ ذلك لا ينقصه في عين الله سبحانه شيء ، ولكنه اختار ـ وهو الفرد الأكمل ـ أن يكون متواضعاً ! .
وها هنا سؤالان ينبغي الإجابة عنهما :
الأول :
أنّ ظاهر الحديث هو التواضع لكلّ أحد ، مع أنّ الأشرار والمتكبرين لا ينبغي التواضع لهم ؟.
وجوابه :
أنه يمكن القول أنّ العموم الموجود في الحديث الشريف مقيّد بأن لا يكون التواضع من نصيب الأشرار و المتكبرين .
ومن هنا ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال : ( إذا رأيتم المتواضعين من أمتي فتواضعوا لهم ، وإذا رأيتم المتكبرين فتكبروا عليهم ، فإنّ ذلك لهم مذلة وصغار ) .
وليس معنى ذلك أن يرى الإنسان نفسه ذاتاً أشرف منهم وهم أحقر منه ويتوقع أن يتواضعوا له ، بل يجب أن يرى نفسه عاجزاً مثلهم ، وإنما بتوفيق الله أصبح من أهل النجاة ، وبخذلان الله يهلك من هلك ، ومن الممكن أن يوفق ذلك الكافر أو للفاسق للتوبة ويرزق حسن العاقبة . نعم ، نعاملهم بخشونة وغلظة تبعاً لأمر الله تعالى بذلك ، لا أن نبيع عليهم الكبرياء .
كما ينبغي أن نلتفت أنّ التواضع ليس مرتبة واحدة لجميع الناس ، بل أنّ التواضع لكلٍ بحسبه ، فالتواضع الذي يبديه المرء تجاه عالمٍ ـ مثلاً ـ ، ليس هو التواضع الذي يبديه لغيره ، والتواضع الذي يبديه المرء تجاه والديه ليس هو نفسه التواضع الذي يبديه لغيرهما ، مع أنّ الكلّ تواضع ، فينبغي أن يعطي لكل ذي حقّ حقه .
الثاني :
أنه كيف للمرء بالتواضع مع وجود الحالة النفسية بعلوّ المقام ، كما لو كان الشخص عالماً والمقابل له ذو علمية أقلّ ـ مثلاً ـ ، أو كان طبيباً والمقابل له ذو وظيفة متدنية ؟ .
وجوابه :
1 . أنّ الحديث نفسه يرفع هذا الإشكال ( .. وإذا لقي من هو شرّ منه وأدنى .. ) فباعتراف الحديث أنّ الذي يلقاه هو أدنى منه منزلة ، ولقد بيّن أيضاً ما هو التكليف الصحيح إزاء هذه الحالة ( .. قال : لعلّ شرّ هذا ظاهر وخيره باطن .. ) ، أو لعلّ خاتمته الى خير وخاتمتي الى شرّ .
2 . أنّ وجود هذه الحالة لا يتنافى مع التواضع ، فليس التواضع هو سحق هذه الأمور النفسية ، من الشعور بفضيلة العلم أو غيرها ـ والتي تكون قهرية عادة ـ ، بل التواضع هو ( انكسار للنفس يمنعها من أن يرى لذاتها مزية على الغير ، وتلزمه أفعال وأقوال موجبة لاستعظام الغير وإكرامه ) .
فعلى الفرد أن لا يرى لنفسه فضيلة على غيره مهما كانت المنزلة والمكانة التي يحظى بها ، وتفهيم النفس أنّ هذه الأمور التي حصلت إنما هي من نعم الله عليه ـ حدوثاً وبقاءاً ـ ، فإذا شعرت النفس ـ وهي حالة اختيارية ـ أنه يجب أنْ تقدّس وتعظم لتلك المرتبة والمنزلة فهذا هذا الكبر المرفوض دينياً .
ـ من علامات التواضع :
لا بأس بذكر بعض الأحاديث الشريفة الواردة بهذا الخصوص تتميماً للفائدة :
منها : ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال : ( إنّ من التواضع أن يرضى الرجل بالمجلس دون المجلس ، وأن يسلم على من يلقى ، وأن يترك المراء وإنْ كان محقاً ، ولا يحبّ أن يحمد على التقوى ) .
ومنها : ما روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال : ( التواضع أن تعطي الناس ما تحبّ أن تعطاه ) .
ومنها : ما روي عن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنه مرّ برجل من أهل السواد دميم المنظر فسلّم عليه ونزل عنده وحادثه طويلاً ، ثمّ عرض عليه نفسه في القيام بحاجة إنْ عرضت له ، فقيل له :يا ابن رسول الله أ تنزل الى هذا ، ثمّ تسأله عن حوائجه وهو إليك أحوج ؟.
فقال (عليه السلام) : ( عبد من عبيد الله ، وأخ في كتاب الله ، وجار في بلاد الله ، يجمعنا وإياه خير الآباء آدم ، وأفضل الأديان الإسلام ، ولعلّ الدهر يردّ من حاجتنا إليه فيرانا بعد الزهو عليه متواضعين بين يديه ) .
2 . ( ولا يتبرّم بطلب الحوائج قلبه )
من المحتمل أن تكون هذه الحوائج على نحوين :
أ ـ طلب حوائج الى الله سبحانه .
ب ـ طلب حوائج من الناس ، بمعنى أن يكون الناس محتاجين إليه لكونه ذا فضيلة معينة ـ مثلاً ـ فتكثر حوائج الناس لديه .
والظاهر هو الثاني ، و إلا كيف يكون المرء متبرّماً من طلب الحوائج الى الله سبحانه وتعالى ، وهو ـ أي المرء ـ عين الفقر ! .
3 . ( الذلّ أحبّ إليه من العزّ )
كيف يكون الذل أحبّ الى نفس المؤمن ، مع أنه عزيز بشهادة قول المولى سبحانه وتعالى : " ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين " ، وكيف يكون المؤمن ذليلاً مع أننا نعرف أنه لا يجوز له أن يذلّ نفسه ؟.
أقول :
يمكن أن نفهم من الذلة معنيان صالحان لرفع الإشكال المتقدم :
1 . أنّ المقصود من الذلّ هو ذلّ نفسه أمام الله سبحانه وتعالى ، فيكون المعنى : أنّ الذلّ أمام الله سبحانه أحبّ إليه من العزّ أمام غيره .
2 . أنّ المقصود من الذلّ هو حبّ الخمول الذي هو ضدّ حبّ الجاه والشهرة ، وذلك بقرينة قوله ( العزّ ) .
ويؤيد ذلك ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : ( المؤمن بشره في وجهه ، وحزنه في قلبه ، أوسع شيء صدراً ، وأذلّ شيء نفساً ، يكره الرفعة ، ويشنأ السمعة ... )
الشيخ سلام باقر الربيعي.